جرى العرف أن يوجه الحبر الأعظم ، بابا روما ، في أواخر كل عام ميلادي ، وعلى مشارف عام جديد ، ما بات يعرف باسم " رسالة اليوم العالمي للسلام "، وقد بدا هذا التقليد في عهد سعيد الذكر ، البابا بولس السادس ، عام 1966، وفي ذلك الوقت كانت الحرب الباردة على أشدها ، بين حلف وارسو وغريمه حلف الناتو أو الأطلسي ، وقد عمت المخاوف في أوائل الستينات بنوع خاص ، من حدوث مواجهة نووية ، لا تبقي ولا تذر .
نعم ، توارت الحرب النووية ، ربما إلى حين ، غير أن هذا لا يعني أن السلام العالمي لم يعد مهددا ، إذ ظهرت على السطح أوجه مخاوف أخرى ، تجعل من نهار البشرية قلق، ومن ليلها أرق ، ومن هنا تأتي هذه الرسالة ، إنطلاقا من الدور الأخلاقي والأدبي الذي يمثله البابا والبابوية .
ولعل 2020 هو عام إستنائي وعن حق ، فلم تعرف البشرية منذ مائة عام ، أي منذ نهاية وباء الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 ، جائحة أو وباء خطيرا مثلما هو حادث الآن ، وقد كان فرنسيس سباقا طوال الأشهر الماضية التي أنتشر فيها الوباء ، في السعي نحو تشجيع البشرية على الثقة في مراحم الله من جهة ، والإيمان الراسخ بأن الأخوة الإنسانية وحدها هي التي تكفل الإنتصار على الأزمة ، والعبور من فوقها إلى عالم الرجاء الواسع والأمل الفسيح .
جاءت رسالة اليوم العالمي الرابع والخمسين للسلام هذا العام تحت عنوان ، " ثقافة العناية كمسيرة سلام "،ولا يحتاج المرء إلى تفسير الخطوط العريضة لها، ذلك أن ثقافة الرعاية ، كإلتزام مشترك وتضامني وتشاركي من أجل حماية وتعزيز كرمة الجميع وخيرهم ، وكإستعداد للإهتمام والتنبه والشفقة والمصالحة والشفاء والاحترام المتبادل والقبول المتبادل ، تشكل وسيلة مميزة لبناء السلام .
الرسالة المطولة التي أصدرها البابا فرنسيس ، الفقير وراء جدران الفاتيكان ، يعانق فيها المرء روح وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعت في أبوظبي في فبراير شباط من عام 2019 ، تلك الروح التي يحتاجها العالم ، للخلاص من اشكال التطرف والغلو والتمحور حول الذات ، والتي أعتبرها فرنسيس تقف حدا وسدا في طريق الأخوة الحقيقية بين بني البشر ، والذين هم في الأصل ينتمون إلى خالق واحد .
أظهرت أشهر محنة إنتشار فيروس كوفيد-19 المستجد ، أنه إلى جانب أعمال المحبة والتضامن ، هناك ومن أسف زخم جديد الشكل ، مؤلم الفعل ، تكتسبه تيارات مختلفة سياسية وإجتماعية ، من القومية والتمييز العنصري والتعصب ،وحتى الحروب والصراعات التي تزرع الموت والدمار .
ما الذي تعلمنا إياه تلك الأحداث ؟
بحسب فرنسيس ، أسقف روما ، خليفة بطرس كبير الحواريين ، إنها درس يعلمنا أهمية الإعتناء ببعضنا البعض ورعاية الخلق ، من أجل بناء مجتمع يقوم على علاقات أخوية .
أما التضامن عنده فيعبر بشكل ملموس عن محبتنا للآخر ، والتي ليست شعورا بتعاطف مبهم ، بل عزما ثابتا ومثابرا على العمل من أجل الخير العام ، أي من أجل خير الكل وكل فرد ، لأننا جميعنا مسؤولون حقا عن الجميع .
ولعله من المؤكد أن التضامن هو وسيلة للأخوة الإنسانية ، يساعدنا على رؤية الآخر – الشخص ، أو بمعنى واسع ، الشعب أو الأمة ، ليس بمثابة إحصاء ، أو وسيلة نستغلها ثم نستبعدها عندما لم نعد بحاجة إليها ، إنما بمثابة قريب لنا ، ورفيق للدرب ، مدعو للمشاركة مثلنا ، في وليمة الحياة التي يدعو الله تعالى إليها الجميع بالتساوي .
في رسالته ليوم السلام العالمي للعام 2021 يعلو صوت فرنسيس كصوت صارخ في البرية ، في مواجهة عالم تهيمن عليه ثقافة الإقصاء ، وإزاء تفاقم عدم المساواة داخل الدول وفيما بينها ، يدعو الرجل ذو الثوب الأبيض البالي ، كما رأه العالم أكثر من مرة ، في مشهد يعكس الفقر الإختياري الحقيقي الذي يعيشه ، وبعيدا عن الزيف والرياء ، أو البهرج الخداع ، المسؤولين عن المنظمات الدولية والحكومات ، والعالم الإقتصادي والعلمي ، وعالم التواصل الاجتماعي والمؤسسات التعليمية ، إلى تبني "بوصلة "، مبادئ الأخوة الإنسانية ، حتى يطبعوا مسارا مشتركا لعملية العولمة ، مسارا إنسانيا حقا ، وهذا ، في الواقع ، من شأنه أن يسمح بتقدير قيمة وكرامة كل شخص ، وبالعمل معا والتضامن أجل الخير العام ، فنقدم بعض الراحة للذين يعانون من الفقر والمرض والعبودية والتمييز والصراعات .
يشجع فرنسيس الجميع على أن يصبحوا شهودا لثقافة الرعاية ، من أجل التعويض عن الكثير من التفاوتات الاجتماعية ، وعنده أنه لن يكون هذا ممكنا الإ بمنح المرأة دورا رئيسيا قويا وواسع النطاق ، في الاسرة وفي كل المجالات الاجتماعية والسياسية والمؤسسية .
على أن علامة إستفهام جذرية تطرحها فكرة فرنسيس عن التضامن ، إذ كيف لهذا النسق الإيماني والوجداني أن يترسخ في نفوس الأجيال الصاعدة ليضحى قاسما أعظم مشترك ، محبوبا ومرغوبا على مدى الأزمان ؟
يؤكد بابا الأخوة الإنسانية على أن تعزيز ثقافة الرعاية يتطلب عملية تربوية ، وتشكل بوصلة المبادئ الإجتماعية ، أداة موثوقة لمختلف السياقات المترابطة ، والتربية على الرعاية تنشا أول الأمر ، وأهمه في الاسة ، التي هي النواة الطبيعية والاساسية للمجتمع ، حيث يتعلم المرء فن العلاقات والاحترام المتبادل .
لم يطرح فرنسيس من حساباته في طريق الرعاية وثقافة السلام ، الدور الذي يمكن للديانات عامة ، وللقادة الدينيين خاصة أن يلعبوه في نقل قيم التضامن واحترام الإختلاف والترحيب والرعاية بأكثر الإخوة ضعفا إلى المؤمنين في كل الملل والنحل ، الأعراق والطوائف .
لن يستقيم السلم العالمي من دون ثقافة الرعاية ، تلك التي تشكل سبيلا مميزا لبناء السلام ، هكذا يختم ويوجز فرنسيس رسالته للعالم في هذه الأيام المباركة ، على صعوبتها وألمها ، فالرعاية القلبية والعقلية ، تولد التزاما مشتركا ومتضامنا وتشاركيا من أجل حماية وتعزيز كرامة وخير الجميع .
العالم في حاجة إلى مسارات سلام تقود إلى إلتئام الجروح ، وهناك حاجة أشد إلى صانعي سلام ، مستعدين للشروع في عمليات الشفاء والتلاقي ببراعة وجرأة .